فصل: فصل في ذكر آيات الأحكام في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال اللّه تعالى: {الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقولونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقول وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)} الظهار لغة مصدر ظاهر، مفاعلة. يقال: ظاهر زيد عمرا، إذا قابل ظهره بظهره حقيقة، وظاهره غايظه، وإن لم يكن هناك تقابل حقيقة، باعتبار أنّ المغايظة تقتضي هذه المقابلة، وظاهره: ناصره باعتبار أنّه يقال قوّى ظهره إذا نصره، وظاهر بين ثوبين إذا لبس أحدهما فوق الآخر، باعتبار ما يلي به كل منهما الآخر ظهر الثوب. وظاهر من امرأته قال لها: أنت علي كظهر أمي. وكان ذلك طلاقا في الجاهلية كما تقدم، وقال بعض العلماء: وكان طلاقا أيضا في أوّل الإسلام، لقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية السابقة: «ما أراك إلا قد حرمت عليه».
وحكى بعضهم أنّه كان طلاقا يوجب حرمة مؤبدة لا رجعة فيه. وقيل: لم يكن طلاقا من كل وجه، بل كانت الزوجة تبقى معلقة، لا ذات زوج، ولا خلية تنكح غيره، وكان الظاهر أن يقال: ظاهر زوجته، كما يقال طلق زوجته، إلا أنّه لتضمنه معنى التبعيد عدّي بمن.
وقوله تعالى: {ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ} ليس خبر المبتدأ، إنما هو دليله، والخبر محذوف، والتقدير: الذين يظاهرون من نسائهم مخطئون، لسن أمهاتهم، ما أمهاتهم على الحقيقة إلا اللائي ولدنهم، فلا يشبّه بهن في الحرمة إلا من ألحقها اللّه بهن.
{وَإِنَّهُمْ لَيَقولونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقول وَزُورًا} وصف اللّه الظهار بأنه منكر وزور، باعتبار أنّ قول الرجل لامرأته (أنت عليّ كظهر أمي) يتضمّن إخبارا وإنشاء، فالأول من جهة إخباره بأنها تشبه أمه، والثاني من جهة أنه أنشأ طلاقها وتحريمها، فهو خبر زور، وإنشاء منكر، ينكره الشرع، ولا يعرفه.
{وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} كثير العفو والمغفرة، فيغفر لهم ما سلف من الظهار، ويعفو عمن ارتكبه إذا تاب.
تمسّك المالكية بظاهر قوله تعالى: {مِنْكُمْ} في أنّ الذمي إذا قال لزوجته أنت عليّ كظهر أمي لم يعتبر ذلك ظهارا، ولم تترتب عليه أحكام. وهذا هو المنقول عن الحنابلة، وهو المعول عليه عند الحنفية، إلا أنّ الحنفية لم يستدلوا عليه بمفهوم قوله تعالى: {مِنْكُمْ}، بل حجتهم في ذلك أنّ الذمي ليس من أهل الكفّارة.
وقال الشافعية كما يصح طلاق الذمي وتترتب عليه أحكامه، يصحّ ظهار الذمي وتترتب عليه أحكامه، وقوله تعالى: {مِنْكُمْ} إنّما ذكر للتصوير والتهجين، لأن الظهار كان مخصوصا بالعرب، فليس من مفهوم الصفة ليستدل به على عدم صحة الظهار من الذمي.
واعترض قول الشافعية بصحة ظهار الذمي مع اشتراطهم النية في الكفارة بخصالها الثلاث والإيمان في الرقبة. والذمي ليس من أهل النية، ويتعذّر ملكه للرقبة المؤمنة.
وأجابوا عن ذلك بأنّ خصال الكفارة منها ما هو عبادة بدنية وهو الصوم، ومنها ما هو من قبيل الغرامات وهو العتق والإطعام، والنية فيما كان من قبيل الغرامات إنّما هي للتمييز، فلا يشترط فيها الإسلام، كما في قضاء الديون. فالذمي يكفّر بالإعتاق والإطعام، ولا يكفّر بالصوم، لأنه لا يصح منه، كما أنّ العبد المظاهر لا يكفّر بغير الصوم، لأنه لا يملك. ويتصور ملك الذمي للعبد المسلم بإسلام قنّه، أو بقوله لمسلم: أعتق عبدك عن كفارتي فيجيبه، فإن لم يمكنه شيء من ذلك وهو موسر، منع الوطء لقدرته على ملك الرقبة المسلمة، بأن يسلم فيشتريها، وكذلك لا ينتقل من الصوم إلى الإطعام لقدرته عليه بالإسلام. فإن عجز عن الصوم لكبر ونحوه انتقل إلى الإطعام، ونوى للتمييز أيضا.
قال العلماء: لفظ النساء المضاف إلى الرجال حقيقة في الزوجات دون الإماء، لأنّ المتبادر من كلمة نساء الرجل إنما هو زوجاته دون إمائه، فلا يقال فيهن نساؤه، إنما يقال جواريه وإماؤه وسراريه. والتبادر من أمارات الحقيقة، وحينئذ يكون ظاهر قوله تعالى: {مِنْ نِسائِهِمْ} أنّ الظهار إنما يكون في الزوجات، فلو قال لأمته الموطوءة أو غير الموطوءة: أنت عليّ كظهر أمي، لم يعتبر ذلك ظهارا، ولم تترتب عليه أحكام الظهار، وهو منقول عن كثير من الصحابة والتابعين رضي اللّه عنهم، وإليه ذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
وقد نقل عن مالك والثوري صحة الظهار في الأمة مطلقا.
وعن سعيد بن جبير وعكرمة وطاوس والزهري صحته في الأمة الموطوءة، ذهبوا إلى التعميم في قوله تعالى: {مِنْ نِسائِهِمْ} كما عمّ قوله تعالى: {وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ} [النساء: 23] الزوجات والإماء، فحرّم بنت الأمة كما حرّم بنت الزوجة.
واقتضى قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ} أنه ليس للنساء ظهار، فلو ظاهرت امرأة من زوجها لم يلزمها شي ء، وهو متفق عليه بين الأئمة الأربعة، وقال أبو بكر بن العربي: وهو صحيح معنى، لأنّ الحل والعقد والتحليل والتحريم في النكاح بيد الرجال، ليس بيد المرأة منه شيء.
ونقل أبو حيان عن الحسن بن زياد أنّها تكون مظاهرة، ويلزمها التكفير قبل التماس.
وعن الأوزاعي وعطاء وإسحاق أنّ عليها كفارة يمين، وعن الزهري: أنها تكفّر كفارة الظهار، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها.
وكذلك اقتضى عموم الموصول في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ} صحة ظهار العبد من زوجته، لأنّ أحكام النكاح في حقه ثابتة. وإن تعذّر عليه العتق والإطعام، فإنه قادر على الصيام. وحكى الثعلبي عن مالك أنّه لا يصح ظهار العبد.
ولكنّ الذي عليه المعوّل عند المالكية هو صحة ظهاره.
ويؤخذ من قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقولونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقول وَزُورًا} أنّ الظهار حرام، بل اعتمد فقهاء الشافعية القول بأنه كبيرة، لأنّ فيه الإقدام على إحالة حكم اللّه تعالى وتبديله دون إذنه سبحانه. ولأنّ من أقدم على الظهار بعد أن أخبر اللّه بأنه منكر من القول وزور يعتبر كاذبا معاندا للشرع، فمن ثمّ كان كبيرة.
قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)}
رتب اللّه الكفارة على الظهار الذي يعقبه العود، وقد اختلف أهل التأويل في العود ما هو؟
فحكى عن مجاهد أنّ الظهار في الإسلام عود إلى ما كان عليه أهل الجاهلية، ومعنى الآية عنده: والذين كان من عادتهم أن يظاهروا من نسائهم، فقطعوا ذلك بالإسلام، ثم يعودون لمثله، فعلى من عاد منهم تحرير رقبة من قبل أن يتماسا.. إلخ فالكفارة تجب بنفس الظهار في الإسلام. وقد روي مثل ذلك عن طاوس والثوري وعثمان البتّي.
وقال أبو العالية وأهل الظاهر: العود تكرار لفظ الظهار وإعادته، فلا تلزم الكفارة إلا إذا أعاد لفظ الظهار.
واختلفت الروايات عن الأئمة الأربعة، فأصحّ الروايات عن أبي حنيفة أنّ العود هو العزم على الوطء.
وروى ابن الجلّاب عن مالك روايتين: أولاهما: أنه العزم على الوطء. وثانيتهما: أنه العزم على الإمساك. وابن العربي ينقل عن (الموطأ) أنه العزم عليهما معا.
وقال الإمام أحمد في قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالوا} قال: هو الغشيان إذا أراد أن يغشى كفّر. اهـ.
وقال الشافعي: الذي عقلت مما سمعت في {يَعُودُونَ لِما قالوا} أنّ المظاهر حرم مس امرأته بالظهار، فإذا أتت على المظاهر مدة بعد القول بالظهار ولم يحرّمها بالطلاق الذي يحرّم به، ولا شيء يكون له مخرج من أن تحرم عليه به، فقد وجب عليه كفارة الظهار، كأنهم يذهبون إلى أنه إذا أمسك ما حرّم على نفسه عاد لما قال فخالفه، فأحل ما حرّم، ولا أعلم له معنى أولى به من هذا.
فأمّا مجاهد ومن يرى رأيه، فلم يخف عليهم أنّ العود شرط في الكفارة، ولكنّ العود عندهم هو العود إلى ما كان عليه أهل الجاهلية من المظاهرة من الزوجات، وهكذا استعملوا العود في معناه الحقيقي، كما قال اللّه تعالى في جزاء الصيد: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] أي ومن عاد للاصطياد بعد نزول تحريمه، وكما قال تعالى: {عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا} [الإسراء: 8] أي وإن عدتم إلى الذنب عدنا إلى العقوبة، وقد أخبر اللّه عن الظهار أنه منكر وزور، فهو معصية منهيّ عنه، والعود إلى المنهي عنه فعله بعد النهي عنه.
ولا يخفى أنّ حمل الكلام على تأويل مجاهد ومن يرى رأيه خروج بالآية عن مقتضى الفصاحة، وتفكيك لنظمها. فإنّهم جعلوا الفعل المستقبل الدالّ على الاستمرار {يَظْهَرُونَ} بمعنى الماضي المنقطع. وجعلوا العائد غير المظاهر، إذ المظاهرون على رأيهم أهل الجاهلية، والعائدون أهل الإسلام، فإذا ساغ فهم ذلك في رجل ظاهر في الجاهلية، ثمّ ظاهر في الإسلام، فكيف يسوغ في رجل لم يظاهر في الجاهلية، أو لم يدرك الجاهلية أصلا؟
ومعلوم أنّ مساق الآية لبيان حكم المظاهر في الإسلام، وعليه ينطبق سبب النزول، وأيضا فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمر أوس بن الصامت بالكفّارة، ولم يسأله أظاهر في الجاهلية أم لا؟
وأما أبو العالية وأهل الظاهر فقد استدلوا على رأيهم بأنّ الذي يعقل من لغة العرب في العود إلى الشيء إنما هو فعل مثله مرّة ثانية، كما قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] والفعل معدّى باللام كآية الظهار سواء بسواء، واتفق أهل التأويل على أن عودهم لما نهوا عنه هو إتيانهم مرة ثانية بمثل ما أتوا به أول مرة.
وكذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ} وهو في سورة المجادلة بعد ذكر الظهار بآيات، والعهد قريب.
وقالوا أيضا: أصحّ خبر في الظهار حديث عائشة رضي اللّه عنها أنّ أوس بن الصامت كان به لمم، فكان إذا اشتد به لممه ظاهر من زوجته، فأنزل اللّه فيه كفّارة الظهار. فهذا الحديث يقتضي التكرار.
وقالوا أيضا: فما عدا تكرار اللفظ: إما إمساك وإما عزم وإنما فعل، وليس واحد منها عودا لما قال، فلا يكون الإتيان به عودا، لا لفظا ولا معنى.
وأجاب الجمهور عن ذلك بأنّ هذا الرأي يقتضي أنّ الظهار أول مرة لا يترتب عليه كفارة، وقصة خولة تدفعه، لأنّه لم ينقل التكرار، ولا سأل عنه صلى الله عليه وسلم، وكذلك لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم سلمة بن صخر حين ظاهر من زوجته فألزمه الكفارة: أهذا ظهار مكرّر، أم هو أول ظهار؟
وأما حديث عائشة فما أصحّه، وما أبعد دلالته على ما قالوا، فإنّ غاية ما أفاده أن أوس بن الصامت ظاهر من زوجته مرات كثيرة، وأن زوجته جاءت آخر مرة تجادل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وتشتكي إلى اللّه، فأنزل اللّه تحريم الظهار، ورتّب عليه وجوب الكفارة قبل التماس، فكان الذي أخذ هذا الحكم هو المرة الأخيرة، وأما ما قبلها من مرات المظاهرة فإنّها لغو لا حكم لها، أو أنها كما في بعض الآراء كانت طلاقا.
أما الأئمة الأربعة وأكثر المجتهدين فلم يخف عليهم أنّ الظاهر من قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ} لِما قالوا أنّهم يكررون ما قالوا، إلّا أنّه منع من هذا الظاهر أن التكرار لم ينقل في قصة خولة وزوجها أوس، ولا في قصة سلمة بن صخر، وأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يسأل أوسا ولا سلمة عنه.
وقد قال أهل اللغة إذا قال قائل: (عاد لما فعل) جاز أن يريد أنه فعله مرة أخرى، وهذا ظاهر. وجاز أن يريد أنه نقض ما فعل وتداركه. لأنّ التصرف في الشيء بنقضه وتداركه لا يمكن إلا بالعود إليه، فلما منع من إجراء اللفظ على ظاهره ما تقدم، وجب المصير إلى المعنى الثاني وهو النقض والتدارك.
إلا أنّ الأئمة مختلفون في العمل الذي ينقضه المظاهر ويتداركه، فيرى غير الشافعي أنّ الظهار يوجب تحريما للزوجة لا يرفعه إلا الكفارة، فالذي يريد المظاهر نقضه وتداركه هو تحريمها عليه، ونقض ذلك التحريم وتداركه إنما يكون بوطئها، أو بالعزم على وطئها، أو باستباحة وطئها، على خلاف بينهم تقدم بيانه.